ما
يحدث الآن في مصر يثير من علامات الريبة و التشكك بأكثر مما يسير علامات
الاندهاش و الحيرة ؟ ، فلا يزال البعض منّا و خاصة إخواننا الليبراليون و
من سار على نهجهم واقتفى أثرهم و دار في فلكهم يحاولون بسوء نية لا تحتمل
التأويل الانقضاض على الديمقراطية في أبسط معانيها ، و هم الذين ما فتئوا
يتشدقون بها ليل نهار و صباح مساء يلصقونها بهم التصاق القيد بالمعصم و
يبرئون غيرهم منها براءة الذئب من دم يعقوب إن جاز التعبير !! .
و هم
بذلك يمارسون السياسية في أسوأ معانيها ، سياسية مجردة من أي قيمة أخلاقية
أو إنسانية عمادهم فيها الخداع و التضليل و الكذب ثم الكذب ثم الكذب حتى
يعتقدوا أن الشعب قد انطلى عليه كذبهم لكنهم في واقع الحال و المئال لا
يصدقون إلا أنفسهم !!.
و
إذا سألتني عزيزي القارئ عن السبب وراء هذه المقدمة التي لابد من منها في
وجهة نظري ، أقول إنك تعرف جيدا أنه قد حصل جدل كبير و نقاش ضخم في مصر
في الشهور الماضية عقب الثورة حول طبيعة المرحلة الانتقالية و الخطوات
الواجب إتباعها لإعادة بناء الدولة المصرية من جديد و الوقت اللازم لذلك ،
وانقسم الناس على أثرها فرقا و شيعا وأحزابا ، فبين مطالب بمجلس رئاسي
مؤقت يدير البلاد و آخر يطالب بانتخابات رئاسية قبل البرلمانية ، و آخر
يطالب بوضع دستور جديد أولا ، و آخر يطالب بانتخابات نيابية ثم وضع
الدستور من لجنة تشكل من قبل المجالس النيابية ثم تجرى انتخابات الرئاسة
في النهاية و أمام تعدد الرؤى واختلاف وجهات النظر ، لم يجد المجلس
العسكري أمامه بديلا سوى إجراء استفتاء شعبي على الشكل الذي يعتقد أنه
الأصوب لإدارة المرحلة الانتقالية حسما للخلاف .
فإذا
قبل به الناس فبها و نعمه و إذا رفضه الناس اقترح غيره و عرضه عليهم في
استفتاء آخر و هذا هو جوهر الديمقراطية أن تحترم إرادة الأغلبية ، و
بالفعل تم الاستفتاء و اختار أكثر من 18 مليونا من المصريين في سابقة غير
مسبوقة في التاريخ في عدد المصوتين أن يقولوا نعم لإجراء الانتخابات
البرلمانية أولا ثم اختيار اللجنة المناط بها تعديل الدستور من قبل مجلس
الشعب ، ثم وضع الدستور الجديد و إجراء الانتخابات الرئاسية فى النهاية ،
واختار نحو 4 مليون مواطن أن يقولوا لا على هذه التسلسل للمرحلة
الانتقالية ، و قلنا حينها أن هذا حقهم و وجهة نظرهم و قلنا أن رفضهم
للتعديلات أساسه حرصهم على سلامة الوطن من وجهة نظرهم و لم نشكك في
نواياهم خاصة أنه كان من بينهم عدد لا يستهان به من الشخصيات المحترمة و
المعتبرة ، أما وقد اختار الشعب المصري بأكثر من 77 % أن يقولوا نعم على
التسلسل الذي ذكرناه آنفا ، فكان لا بد أن يحسم الخلاف و تنزل الأقلية على
رأى الأغلبية و ننشغل بالبناء و بوحدة الصف ، بدل من الاختلاف و الشقاق ،
خاصة أن القضاء المصري النزيه لم يصدر ضد نتيجة الاستفتاء أي حكم يطعن
في صحته، و هو نفسه القضاء الذي لم يهاب أن يصدر آلاف الأحكام ببطلان
الانتخابات في عهد مبارك مع الضغوط التي كانت تمارس عليه ، أيفعلها إذا في
أجواء الحرية ؟! .
هذه
النتيجة لم تعجب إخواننا الليبراليون و غيرهم و حاولوا الالتفاف عليها
بشتى الطرق منها التشكيك في نزاهة الاستفتاء دون أن يقدموا دليلا ماديا
ملموسا يقنع أي قاضى محترم بإصدار حكم ضده ، و منها أن من صوتوا بنعم قد
تم الضحك عليهم بحجة الحفاظ على المادة الثانية من الدستور من العبث ، و
هؤلاء بدعواهم هذه يشككون في عقل و تفكير جموع الشعب المصري الذي أزال
مبارك و نظامه .
آخر
حيلهم للانقضاض على الديمقراطية هي الدعوى إلى مليونية يوم الجمعة
القادمة (27 مايو ) تحت مسمى الثورة المصرية الثانية !! ، و هم بهذه
التسمية الخبيثة يهدفون إلى هدم كل ما سبق و خاصة الاستفتاء ، فكلمة (
الثورة الثانية ) تعنى التأسيس لشرعية جديدة تهدم كل ما سبق و تؤسس لشرعية
جديدة ، و هذه حيلة تدلل على أن أصحاب هذه الدعوة يحاولون خداع الشعب
المصري للتنصل من حكم الأغلبية الذي صدر بنتيجة الاستفتاء بل و ينقلبون
على الثورة المصرية التى لا تزال مستمرة . فالمطالب التي يدعو لها هؤلاء
للتظاهر يوم الجمعة (27 / 5 ) هي :
1- مجلس رئاسي مدني لتنفيذ أهداف الثورة كاملة مع جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد .
2- تطهير الشرطة من قيادات الفساد وإعادة الأمن والأمان لمصرنا الحبيبة .
3- تطهير القضاء، لضمان تطبيق العدالة الناجزة ,
4- تطهير المحليات وانتخاب المحافظين.
5- تطهير الإعلام بكل وسائله، فلا تقدم ولا حريات في بلد يرأس إعلامه فاسدين .
6- الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين من يوم 25 يناير وما قبلها والإفراج عن ضباط 8 أبريل الأحرار .
7- محاكمة كل الفاسدين والمفسدين وعلى رأسهم المخلوع مبارك .
8- استرجاع كل أموال الشعب المنهوبة، ومحاكمة كل من شارك أو ساهم أو تواطأ في نهب ثروات البلاد ))
هذه
المطالب كما تلاحظ جميلة و ممتازة و من السهل على الكثيرين من الشعب
المصري التعاطي معها و كل مطلب منها يعتبرا مبررا للنزول للشارع ، هذا هو
العسل الذين يريدون خداع الناس به ، أما السم فهو المطلب الأول الذي ينقض
على نتيجة الاستفتاء و يلغيها تماما و بالتالي يلغى إرادة 18 مليون مصري ،
فالمجلس الرئاسي و الجمعية التأسيسية و الدستور الجديد الذين يطالبون به
الآن و فورا قد أعلن غالبية الشعب رفضه لهذا الطرح .
لذلك
الخدعة سوف تكون كالآتي دعوات للنزول يوم الجمعة القادمة لميدان التحرير و
سينزل الكثير من الناس بحسن نية و قد يكون رافضين تماما لمبدأ وضع دستور
الآن أو فكرة المجلس الرئاسي و لكنهم خرجوا من أجل تطهير الشرطة و القضاء
و الإفراج عن المعتقلين ، لكن مع سيطرة الليبراليون على وسائل الإعلام
سوف يكون هناك حرص على نقل الحدث و تسليط الضوء على أنهم خرجوا من أجل
تشكيل جمعية تأسيسية و وضع دستور جديد الآن في انقضاض على نتيجة
الاستفتاء و يضغطون بالتالي على المجلس العسكري مع وضعه الحرج خاصة مع
الأزمات الأمنية و الاقتصادية التي تعصف بالبلاد ، و بالتالي نجد رجل مثل
يحيى الجمل و شركاه هم الذين يشكلون لجنة تأسيس الدستور و من ثم وضع دستور
جديد على هواهم و يتمشى مع مرجعيتهم الليبرالية العلمانية بمعزل عن الشعب
الذين يخشون أن يأتي بالإسلاميين للمجلس الشعب و بالتالي تكون لهم الكلمة
الأولى في تشكيل لجنة وضع الدستور و بالتالي وضع دستور تكون مرجعيته
الشريعة الإسلامية .
هذه
هي اللعبة السياسية التي تجرى في مصر الآن ليبراليون و علمانيون لا
يملكون إيديولوجيا مقنعة للشعب أو برنامج نهضوى معتبر ، و لكنهم يملكون
التمويل و الدعم الخارجي الكبير – الإدارة الأمريكية أعلنت دعم ( التحول
للديمقراطية !! ) فى مصر ب 250 مليون دولار - مع السيطرة شبه المطلقة على
وسائل الإعلام ، و دون رصيد شعبي يذكر لهم ، في المقابل إسلاميون و في
مقدمتهم الإخوان لا يملكون مصادر التمويل الضخمة التي عندهم إلا من جيوبهم
و لا يسيطرون تقريبا على أي وسيلة إعلامية ، و لكن إيديولوجيتهم الشعب
المصري يحبها و يتعاطى معها لأنه متدين بطبعه، لذلك ليس أمام يحيى الجمل
و أعوانه سوى تمرير دستور على هواهم بمعزل عن غالبية الشعب المصري .
هذا
هو المشكل في الموضوع ، أما الكارثى فإن هؤلاء الذين ينقضون على نتيجة
الاستفتاء يزرعون بقصد أو بغير قصد بذور الفتنة التي تهدم و لا تبنى ، و
يهدمون أبسط معاني الديمقراطية التي تستند إلى الاحتكام إلى رأى الأغلبية
.
أدرك
أن هناك من الشرفاء من سينزل يوم الجمعة و لم يفكر فى الموضوع بالشكل الذي
طرحته إما لأنه لم تصله الفكرة أو لعدم اقتناعه بها و هذا حقه الذي لا
تثريب عليه ، لكن أخشى ما أخشاه أن يتم استخدام هؤلاء في إظهار الصورة
إعلاميا على عكس ما يريدون ، فيصبحوا مفعولا بهم و ليسوا فاعلين ،
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد .
ـــــ