أسبوع مضى على تنحي الرئيس المصري حسني مبارك، والمشهد السياسي في مصر لا يزال على سيولته. الجامعات والمدارس لا تزال مغلقة، البنوك والبورصة لم تفتح أبوابها بعد، دور السينما والمسارح لا تجد من يرتادها، حتى دوري كرة القدم الذي يتابعه المصريون بشغف لا أحد يعرف متى سيستأنف.
صباح الجمعة ، كان عشرات الآلاف يتدفقون على ميدان التحرير في تظاهرة مليونية سميت بجمعة النصر، كدت وزملائي ندهس تحت الأقدام، قليل من السياسة وكثير من الفرجة، الذين فاتتهم رؤية ميدان التحرير المشتعل بالغضب، خرجوا بالآلاف في إعادة قوية ومطلوبة للمشهد، عائلات اصطحبت أطفالها وافترشت بسطا في أرض الميدان، بائعو الترمس والفول السوداني والبذر نصبوا فرشاتهم الصغيرة ملاصقة لمدافع الدبابات. أجواء فرح كرنفالية في كل مكان تقريبا.
نعبر إلى الضفة الغربية من النهر، وفي ضاحية المهندسين تجمع حوالي ألفين شخص، في جمعة الوفاء للمطالبة بـ "تكريم" الرئيس مبارك، اغانيهم نفسي الأغاني التي تصدح في الجانب الآخر، وأعلامهم نفس أعلام مصر، لكنهم أطلقوا دعوتهم من على الفيسبوك، واحتشدوا هنا رافضين "إهانة الرئيس".
هذا الصخب السياسي جديد على المجتمع المصري، فالذين احتشدوا يوم أمس ليس كلهم من المهتمين بالسياسة بل غالبيتهم نزلوا الشارع بعد زوال الخطر، يطلقون أبواق سيارتهم، ويحملون الدفوف ويتركون سياراتهم دون اكتراث في مداخل ومخارج الشوارع وفوق الجسور العلوية.
غابت الشرطة عن الميدان، أو فضلت الجنوح إلى السلم في مواجهة جمهور متحفز تجاه دورها في الأمن السياسي وليس الأمن المروري أو الجنائي.
لن تسمع رأيا واحدا في مجلس واحد بالقاهرة، الصحف والإعلام الرسمي الذي كان يصدح باسم النظام صار يصدح باسم الثورة، السياسيون الذين كانوا يكتفون بالحد الأدنى مما يعطيه النظام، صاروا يقدمون أنفسهم مشاريع زعماء، الثورة تفرز اسماء ومزيدا من الأفكار كل يوم.
ظلت الثورة المصرية دون شعارات دينية تقريبا حتى تنحي مبارك، لكن في جمعة النصر، جاء الشيخ يوسف القرضاوي ليؤم الصلاة في ميدان التحرير، بل أن بعض الصحف وصفته بـ"إمام الثوار".
لم يعبر كثيرون عن قلقهم علنا من حضور القرضاوي شخصيا بعد الثورة، وحين سألت أحد قيادات اليسار ورموز الثورة قال لي ليل الخميس الماضي" بلغناه رسالة أن لا يتحدث في الدين".
لكن صيحات التكبير سمعت في الميدان بعد انتهاء الصلاة، حين سألت عمرو حلمي ، السياسي الشاب وعضو ائتلاف الغضب عن شعوره تجاه المشهد قال "لقد أقيم قداس للمسيحيين في نفس الوقت بالميدان، كما أن الغالبية الساحقة من المصريين يصلون الجمعة، لا أعتقد أن الأمر ينطوي على مبالغة دينية".
لكن بعض المتحدثين المقربين من الكنيسة مثلا، أعربوا عن مخاوفهم إزاء لجنة تعديل الدستور التي تضم قبطيا وإخوانيا بين أعضائها لكن رئيسها هو الفقيه الدستوري والمفكر الإسلامي طارق البشري.
ولا يبدو أن الكنيسة تكتم مخاوفها، فالبابا شنوده الثالث جدد الدعوة لدولة مدنية وديمقراطية، وكلف أحد كبار رجال الكنيسة بمتابعة عملية تسجيل الأقباط في الجداول الانتخابية.
نجيب جبرائيل، المحامي والحقوقي المصري، أعرب عن هذه المخاوف صراحة وقال إن عددا من النشطاء الاقباط يسعون للقاء لجنة تعديل الدستور لبحث المادي الثانية المتعلقة بأن الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع.
كما أعرب جبرائيل عن تحفظه على اختيار المستشار البشري، رئيسا للجنة بسبب ميوله الإسلامية.
في الكواليس، ستسمع همسا من بعض أقطاب الثورة عما يحدث، كثيرون يعبرون عن خوفهم من "ثورة مضادة" ينشط فيها رموز النظام السابق، آخرون يتساءلون عن نوايا الأخوان المسلمين، وماذا سيحدث لو أجريت انتخابات نيابية بعد ستة أشهر؟
لن تسمع إجابة شافية، فالثورة ليس لها من يتحدث باسمها، والوضع في حالة سيولة وكأن هناك من يتابع المشهد عن قرب، منتظرا الوقت المناسب لضبط الإيقاع.
وحين سئل رئيس الوزراء أحمد شفيق عن عمر حكومته، قال ربما ساعات وربما اسابيع وربما شهور، ما يعني ضمنيا أنه ليس المرجعية الأخيرة.
الكثيرون يتطلعون إلى المجلس العسكري الأعلى، وهو الجهة التي تتولى حكم البلاد بصفة انتقالية. لكن هذه السلطة تبدو وكأنها تتعامل مع الواقع بتأن شديد، وبسياسة الخطوة خطوة.
فقد بدت الخطوة الأخيرة بحبس ثلاثة وزراء سابقين، و القيادي السابق بالحزب الوطني أحمد عز، وكأنها رسالة تطمين للشارع بجدية المؤسسة العسكرية في متابعة ما وعدت به. لكن الواقع على الأرض يشير إلى ضبابية تحيط بالخطوات المقبلة، خاصة عندما يتساءل كثيرون ، عن توقيت عودة الحياة الطبيعية إلى الشارع المصري.