حظوظ عظيمة وعواقب وخيمة
بقلم / نور الجندلي
الحكاية معروفةٌ متداوَلة بين الناس، وقارون شخصيَّة شهيرة، بُسِط لها في الرِّزق، وأوتي مِن الدنيا أغْلَى المتاع.
كانتِ الدنيا بين يديه مِثل حسناء فاتنة الحُسْن، تلفتُ الأنظار، وتخلبُ الألباب، كانتِ الدنيا عزًّا وجاهًا، مال عظيم تنوء بحمل مفاتيح خزائِنه الجِمالُ.
وكان هو والدنيا فقط على وِئام، ربطتهما علاقةُ حُبٍّ عظيمة، وطَّداها بصداقةٍ متينة، وحين يجتمع الحبُّ والصَّداقة في آنٍ معًا، يحجزان كلَّ مراكز الشُّعور في القلْب، وحين يكونُ مدخَل الحبِّ أعْمى، فإنَّ شمعة النور في القلْب تنطفِئ، إذا ما أسرَّه الحبُّ الأعمى.
أحبَّ قارونُ المالَ أكثر مِن أيِّ شيء، وأنساه حُبُّ المال كلَّ شيء، أنساه حقيقةَ الإنسانيَّة، وأنساه ضعْفَه وإمكانيَّة انهياره عندَ أول سقطة، فطغى وتكبَّر وتجبَّر.
وللنقود لَمَعانٌ يُغري، وبَريق يُذهِب العقول، عقول مَن عبدوها مِن دون الله، وجعلوا منها قيودًا تأسِر ضمائرَهم، فظنُّوا بامتلاكهم لها أنَّهم حازوا الخلود، واعتقَدوا أنَّهم في الجنَّة الحقيقيَّة، وكلّ شيء في حوزتِهم، وكلّ الناس طوع إرادتِهم، ورهن إشارتهم.
كلنا نعرِفُ قصَّة قارون ونهايتها، تتبعها عيوننا بشغَف مِن بدايتها وحتى الختام، نتخيَّل ذلك الملك العظيم، وتلك العنجهيَّة، لكننا نتغافلُ في الحكاية عن الثُّلة المفتونة مِن الناس بقارون وماله، والتي ما لبثتْ فأعلنتِ الندمَ والأوبة بعدَ الضياع، حين رأتِ العذاب بعيون لا تَكذِب، واستشعرت قُرْب البلاء في حين أنَّها لم تتُب.
تلك الفِئة التي أمْهَلها الله سبحانه، وأعطاها فرصةً للنجاة، ظلَّتْ تتوالد، وتنجب أبناء وأحفادًا، تتقاذفهم أمواجُ الحياة بين مدٍّ وجزر، لم يَتعلَّموا كلُّهم من التجرِبة، ولم يصغوا لتحذير الذين أوتوا العلم حين قالوا لهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80]، بل ظل البريقُ يخطف أبصارَهم، تذهلهم الدنيا إذا ما تربَّعتْ على عرشها، تارةً في مالٍ أو ربح عظيم، وتارةً في عزٍّ وجاه، وأحيانًا تبهرهم الشُّهرة والتصفيق، وتستهويهم عباراتُ الثناء، تغريهم المفاتِنُ كلُّها، يُعميهم الحب الزائِف وهو كالأفعى تُغيِّر جلدها الأملس في كلِّ مرة؛ ليناسبَ مظهرُها أرضيةَ أهوائهم، وتلامس نقاط الضعْف في نفوسهم، وهي بذلك تضعضع أعمدة بُنيانهم؛ ليكون الخسفُ على حين غرَّة، بطريقة قد تكون غير مألوفة، غير مرئيَّة، خسفًا للقِيَم والمبادئ، خسفًا للإيمان، وخسفًا لحقيقة الإنسانيّة؛ ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 79 - 81].
ذلك الخسْف الذي يتسلَّل دون أن يشعروا به، فيَهوِي بهم، وبعشقِهم الذي عاشوا حياتَهم في سبيله، يهوي بكلِّ لحظة عاشوها لأجْله؛ ليثبتَ حقيقة قُدْرة الله، ويثبت أنَّه واحد، لا شُركاء له مطلقًا، لا آلهة مِن دونه تُعبَد.
اليوم بِتنا نعيش في زمن التباهي في كلِّ شيء، زمن الزِّينة وإبرازها، زمَن العضلات المفتولة ترمُز للقوة في مفاهيمِ الضعفاء، كلٌّ يَعرِض بضاعته، ويروِّج لسوقه، لجماله أو حسَبه ونسبه، لماله أو نِسائه وأولاده، حتى الدين بات زِينةً في مفاهيم كثيرة، يتباهون بعددِ السُّور المحفوظة من القرآن، يترنَّمون بأصواتهم وهم يُرتِّلون، ثُمَّ يُكبِّرون، وكأنَّ الحسن في الصَّوت لا في الآيات، ويُعدِّدون المناقبَ الطيبة وحسن الخِصال، للأسف تَجدَّد الفهم الخاطئ حولَ حقيقة الحظِّ العظيم على كونه للمادَّة، للشُّهرة والأضواء، وباتت - موسوعة جينيس - هي القِبلةَ التي يتَّجهون إليها ليقُوموا بفريضة التباهي، أو غيرها مِن وسائل الإعلام.
لَم يَتعلَّموا الدرس من حينها، كون الحظ العظيم في أشياءَ أخرى مغيبة، في إيمان يَنبُت عميقًا في القلوب، في إله يُعبَد وحده دون شركاء، في عقيدة تُقام على الأرْض حقَّ الإقامة، وسلوك يتْبعها يُؤسِّس لبنيان دعائمُه وطيدة، وما زالوا بانجذاب أعمى يتمنَّوْن ذلك المكان، أو يتوقون لتلك المكانة، فكأنَّ صورة الحسرة مرَّتْ بهم، ورأتها عيونُهم، لكنَّها لم تتسللْ إلى قلوبهم؛
﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82].
قارون العصر ما زالَ يعيش بيننا، يتناسَخ، يتكاثَر، يضرِب الأرض بغطرسة، يفرِض قوانينه الخاصَّة، يتعالَى بما لديه، ويتوق ليغلبَ ويسود، والمعجَبون كُثر، والمصفِّقون أكثر.
في نهاية القصَّة يتراءى لنا التحذيرُ واضحًا جليًّا، التحذير مِن طلب العلوِّ والفساد في الأرْض، فكأنَّهما أداتَا تدمير، إذا اجتمعتَا تحقَّق الهلاك المؤكَّد، وتحقق الخسران أيضًا، وكأنَّ العلوَّ يتبعه الفساد.
في نهاية القِصَّة القرآنية نلمح حقيقةً واضحةً كالشمس، كون الفوز في نهايةِ المطاف لا يكون ولن يحصُل إلا للمتقين ... فقط ... المتقين.
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].